عبدالله القصيمي ، او شيخ الليبرالين العرب ، أو الثائر ، تعددت الأسماء والذات واحده ، تعددت الأراء قبل الأسماء حول حقيقة العقلية التي يحملها هذا الرجل ، هل هو إنساني أكثر من اللازم ، أم صارخ وثائر بلا قضية ؟ ام مفكر سبق عصره كما يحلو للمعجبين أن يطلقوا عليه ؟ شخصية حيرت كل من أطلع عليها او سمع عنها . فمن منافح عن الإسلام وعن الدين ومتصدياً للعلمانيه ومن يتبعها إلى " ملحداً " مثلما حكم عليه المشائخ . كيف يمكن للإنسان أن يتنقل بين عدة أمكنه كل واحد منها مغاير لما قبله في جميع صوره ، من سلفي إلى علماني إلى ملحد . هل بالفعل تنقل عبدالله القصيمي بين هذه المناخات الواحد تلو الآخر ، أم أن الناس هم من تحكموا في تنقله هذا ؟ نتكلم هذا الاسبوع عن حياة هذا المفكر من مولده مروراً بمرحلة الدراسة وإنتقاله إلى مصر وطرده منها وسفره إلى بيروت . كما سنستشهد ببعض كتاباته التي من خلالها تصدى لها مشائخ المملكة والأزهر الشريف وإنزعاج بعض المفكرين العرب منه ومن كتبه التي أصدرها في بيروت وأنتشرت منذ وقت مبكر في مكتبات باريس وواشنطن . فإلى ضيفنا هذا الاسبوع ، إلى عبدالله القصيمي
الطفولة والمنشأ
هو عبدالله بن علي القصيمي ، سعودي المنشأ ، ولد عبدالله القصيمي في " خب الحلوه " غرب مدينة بريدة. ولد عبدالله القصيمي سنة 1907م وما أن تجاوز هذا الصبي العاشره من عمره حتى بدأ رحلة البحث عن أبيه فمن القصيم إلى الرياض إلى إمارة الشارقه التي سمع بأن أباه قد أطال به المقام هناك إلى العراق وسوريا وأخيراً مصر التي ما أن قدٍم إليها حتى ألتحق بجامعها الشريف وهولم يتجاوز التسعة عشر ربيعاً
دراسته وصراعه مع الصوفية
التحق القصيمي بالأزهر الشريف ، وتفاجأ بالتنوع الفكري الذي يضمه هذا الجامع ، كانت التوجهات في هذا الجامع منها ماهو ليبرالي ومنها ماهو سلفي ومنها ماهو صوفي . فكان الأزهر الشريف يغلب عليه توجه ما حينما يكون عميد الجامع ينتمي لأحد المذاهب او التوجهات الفكريه . هذا غير الصراع الدائر بين الصحف المصريه في ذلك الوقت .سنة 1930 تقلد منصب عمادة الجامعه عميداً صوفياً فأخذت الجامعه تُصبغ بالمذهب الصوفي ، الأمر الذي جعل القصيمي يتمرد وهو لم يزال صغيراً ( واحد و عشرون سنه ) ، كان الظواهري عميد الجامعه آنذاك أحد العلماء البارزين في الدفاع عن الصوفيه و عن التوسل بالأولياء ، فألف القصيمي كتابه " البروق النجدية في اكتساح الظلومات الدجوية " الذي هاجم فيه طقوس الصوفيه وتقدسيهم للأضرحه ، شاع هذا الكتاب بين جمهور العلماء الأمر الذي أدى إلى فصل القصيمي من الجامعه سنة 1931م .ركز القصيمي هجومه على علماء الأزهر الشريف وألف كتابين عنهما الأول : " شيوخ الأزهر والزيارة في الإسلام " . والثاني بعنوان " الفصل الحاسم بين الوهابيين وخصوهم " .تم الإستغناء عن الظواهري كعميد للجامعه ، وتم تعيين المراغي صاحب التوجه العلماني ، فتوقف القصيمي عن نقد الأزهر ورجاله وأتجه في نقده للعلمانية . فألف كتاب أسمه " نقد كتاب محمد " لمحمد حسنين هيكل . تصدى فيه للتفسيرات التي فسرها هيكل ( معجزتا الإسراء والمعراج وشق الصدر ) بعيداً عن الدين مستخدماً العقل في هذا التفسير .كان لعبدالله القصيمي موقفاً مضاداً للشيعه ، فما أن ألف أحد أئمة الشيعه كتباً أسمه " كشف الإرتياب في أتباع محمد بن عبدالوهاب " حتى ألف القصيمي كتابه المشهور " الصراع بين الإسلام والوثنيه " . حيث ينفي في هذا الكتاب ، إنتماء الشيعه للإسلام وأنهم يرجعون إلى اليهودي عبدالله بن سبأ ، بعد هذه الكُتب أصبح عبدالله القصيمي هو المعترف به في الدفاع عن السلفيه على نطاق واسع
مرحلة العلمانية
أنتشرت في مرحلة ما بعد سقوط الدولة العثمانية الكتب التي تنتقد وضع العرب المخزي في تلك المرحلة ، كثُر المؤلفون وكتُرت كُتبهم ، فألف القصيمي كتابه الشهير " هذه هي الأغلال " ، أثار الكتاب ردود فعل واسعه بين اصحاب التوجهات العلمانية فقال عنه محمود عباس العقاد " شكل ابن خلدون طليعة الإصلاح في الشرق وشكل الأفغاني ومحمد عبده جوانبه ، أما القصيمي فهو قلبه " . وكان من أكثر المؤيدين لكتابه الشيخ محمد شلتوت الذي أعرب عن أسفه من عدم تمكن جامعة الأزهر خلال تاريخها الطويل الممتد إلى ما قبل ألف عام من من تأليف كتاب بحجم كتاب " هذه هي الأغلال " . في المقابل أنتقد الشيخ العلامه بن سعدي كتاب القصيمي فألف كتاباً سماه " تنزيه الدين ورجاله مما افتراه القصيمي في أغلاله " . هذه هي مواقف المشائخ حول مؤلفات القصيمي الأولى ، فهو دائماً ما يؤكد بأنه مؤمن بالله ورسوله ، إلى أنه يريد التخلص من هذه الأغلال التي لصقت بالدين . فكان ينتقد العلماء وتفسيراتهم للدين . بعد الضجه الذي أحدثها كتابه هذا ، اعتزل القصيمي الحياة العامه وأقتصر جُل وقته على عقد ندوات مع بعض الطلبه اليمنيين ، الأمر الذي دعى الحكومة في اليمن في إرسال طلب للحكومة المصريه لطرده من مصر فذهب إلى بيروت . بعدها بسنوات سُمح له بالعودة إلى أسرته في مصر
مرحلة الالحاد
أحس القصيمي بعد طرده من مصر بغضب العالم عليه ، فأمتنع عن عقد الندوات والدورات وكرس جهده في التأليف ، فألف سنة 1963 كتابه " العالم ليس عقلاً " ولم يلق هذا الكتاب الصدى الذي كان يتمناه ( أعتقد السبب يعود لإستقرار الأوضاع السياسة في العالم العربي في بداية الستينات ) . الف بعده بثلاث سنوات كتابين ، الأول : " هذا الكون ماضميره " والثاني بعنوان : " كبرياء التاريخ في مأزق " . بين سنة 1967م وسنة 1972م بلغ القصيمي أوج شهرته في العالم العربي لسببين ، الأول طرده من بيروت الأمر الذي جعل المفكرين العلمانيين يقفون بجانبه ، والثاني هزيمة 1967م ، الحرب التي اطلقت موجات من النقد في العالم العربي فكانت هذه الحرب فرصه للقصيمي في الدخول في فلسفه النقد وتأليف الكُتب حولها . تمت إعادة طباعة كتاب " العالم ليس عقلاً " الذي لم يلقى صدى واسعاً في البداية . وألف بعده " أيها العار إن المجد لك " وكتاب آخر سماه " فرعون يكتب سفر الخروج " .بعد نشوء الحرب الأهلية اللبنانية ( 1975م ــ 1990م ) أنقطع نشاط القصيمي الأدبي بحكم أن جُل مؤلفاته يتم طباعتها هناك ، فنشر بنفسه كتابة المشهور " العرب ظاهره صوتيه " الذي ترك صدى قوياً حين نشره .ظل القصيمي مقيماً في مصر حتى وفاته سنة 1996م فغادرها محمولاً إلى السعودية التي لم يزرها إلا مرة عند أداءه فريضة الحج .كانت علاقة القصيمي مع الحكومة السعودية علاقة وطيدة لكن حبه للعلم وليكن قريباً من دور النشر جعله بعيداً عن موطنه ، ونستشهد بهذه العلاقة الطيبه في إهدائه لكتبه لجلالة الملك عبدالعزيز ، وكذلك عند وفاتة حينما أرسلت المملكة وفداً ليرافق جثمانه في عودته إلى بلده
مقتطفات من كتبه
( .. ومن ثمّ فإننا نعتقد أن هذه الجماعات المنسوبة إلى الدين، الناطقة باسمه لو أنها استطاعت الوثوب على الحكم ووضعت السلاح في يدها لحكمَ البشرَ عهدٌ من الإرهاب يتضاءل إزاءه كل إرهاب يستنكره العالم اليوم، وهذا أمر يجب أن يعرفه أولوا الرأي والمقدرة وأن يحسبوا له الحساب قبل فوات الأوان، ولن تجد أقسى قلباً ولا أفتك يداً من إنسان يثبُ على عنقك ومالك، يقتلك ويسلبك، معتقداً أنه يتقرب إلى الله بذلك، ويجاهد في سبيله، وينفذ أوامره وشرائعه!! والسوء لمن ناموا على فوهة البركان قائلين: لعله لا ينطلق ... ) من كتابه: هذه هي الأغلال
( .. أنا أرفض أن أموت، أن يموت أبني، أن يموت صديقي، أن يموت أي إنسان، أن يموت خصمي، أن يكون لي خصم! أنا أرفض ذلك تحت أي شعار، تحت أي فكرة تختفي وراءها أضخم الأكاذيب وأفجر الطغاة والمعلمين، لهذا أنا أرفض التعاليم والمذاهب التي تعلمني كيف اكون قاتلاً، كيف أكون مقتولاً، كيف أؤمن بذلك، كيف أهتف لمن يدعونني إليه، لمن يوقعونه بي!! ) من كتابه: صحراء بلا أبعاد
( .. الشعوب العربية لا تعترف بقيمة النقد، بل لا تعرفه، إن النقد في تقديرها كائن غريب كريه، إنه غزو خارجي ، إنه فجور أخلاقي ، إنه بذاءة، إنه وحش فظيع يريد أن يغتال آلهتها ، إن النقد مؤامرة خارجية ، إنه خيانة، إنه ضد الأصالة ، إنها لذلك تظل تتغذى بكل الجيف العقلية التي تقدم إليها، لا تسأم التصديق ولا تمل الانتظار، إن أسوأ الأعداء في تقديرها هم الذين يحاولون أن يصححوا أفكارها وعقائدها أو يحموها من لصوص العقول ومزيفي العقائد، وبائعي الأرباب ، إن تكرار الأكاذيب والأخطاء والتضحيات لا يوقظ فيها شهامة الإباء أو الشك أو الاحتجاج، لقد جاءت مثلاً أليما في الوفاء والصبر والانتظار لكل مهدي لا ينتظر خروجه .. ) من كتابه: صحراء بلا أبعاد
( .. يادولة العرب الواحدة الكبرى، إني أخاف مجيئك لأني أخاف مجيء هارون الرشيد الجديد !! إني أخاف مجيء هارون الرشيد لأني قرات عن هارون الرشيد القديم، كان يقاتل بآبائي ويقاتلهم بالسيوف والرماح والسهام والنبال، كان ينفق قوت آبائي على الجواري والشعراء والمغنين، كان يعرض ذاته وهيبته ووحشيته وكبرياءه فوق المنبر وفي المسجد وفي مواكبه البدوية المنطلقة من القصر إلى المصلى، ومن المصلى إلى القصر، ومن هذا القصر إلى ذاك القصر، ومن مخدع هذه الجارية إلى مخدع الجارية المنافسة الأخرى، كان يحارب ذكاء آبائي وحرياتهم بالمشايخ وبالآيات والأحاديث، وبالأنبياء وبالسلف وبالقبور.. ) من كتابه: لئلا يعود هارون الرشيد